رحلتَ.. ولكنك باقٍ - بقلم: رنا الخالد
الأربعاء 2 سبتمبر 2009 - الأنباء
جدي العزيز عبدالرزاق رحلت وبقيت لنا ذكراك، وهي ليست كأي ذكرى تختزل المواقف والجمل وإنما ذكرى العبر، سيرة عطرة نهتدي بها ودرس لا ينتهي نظل نستقي منه العبر ونكتشفها أكثر وأكثر مع مر الزمن. كنت مثالا لأمور جمة، للحنان، للكرم وعلى الجميع دون حساب، حتى أبكيت من عملوا لديك، الباقي منهم والذاهب، الحاضر منهم والغائب، وكأنهم أبناؤك لأنك كنت تعاملهم حقا كأبنائك، ولم يأت ذلك بعدما بدأ الوهن ينال من جسدك، وإنما كان هذا نهجك في أوج صحتك وعنفوانها، أي طيلة حياتك الغنية بالرحمة والقيم الإنسانية. كنت طائي الكرم يا جدي يضرب فيك المثل بكرمك، لا تتردد في مد يدك وفي العطايا قبل ان يطلبها منك أحد، وكرمك نال القاصي والداني، فلم تخص أحدا وتمتنع عن أحد، لن أنسى هداياك لنا ونحن أطفال وعطاياك السخية التي كنت تحرص عليها عندما كبرنا حتى وانت على فراش المرض. خصالك والله لا تحتملها هذه السطور ولكني أكتبها لأنني لا أقوى على الاحتفاظ بها في داخلي، أحاول أن أختزلها في بعض من السطور علني أجد في ذلك الراحة لنفسي المتخمة بالاعتزاز بالقيم التي آمنت بها وعشتها وبالحرقة على فراقك وفراقها معك. كنت قارئا مثقفا شغوفا بالمعرفة حتى عندما بدأ يضعف بصرتك، لم يمنعك ذلك من الاستمرار فاستمررت في القراءة وفي الاطلاع على الثقافات وبعد فقدانك البصر استمررت في محاولة إشباع هذا الشغف من خلال السماع إلى البرامج الثقافية تارة، وقراءات أبنائك لك تارة اخرى. وما أجمل خلقك يا جدي، لم تكن تتعرف على سائر الثقافات لتسطرها في الأحاديث وتتباهى بالمعرفة وإنما تجسدت هذه الثقافة في منظومة قيمك بالشكل الصحيح فأصبحت الإنسان المنفتح المتسامح الذي يحترم ويقدر الثقافات المختلفة ولا أنسى كيف كنت تنبذ التعصب والتحيز لثقافة ما أو توجه معين، التعصب الذي يقصي الآخر، كم كنت تحترم التعددية وتؤمن بها وكم كنت في الوقت ذاته تذكرنا بأوجه الشبه بين الثقافات المتعددة. كان الاحترام ديدنك في كل شيء وانسانيتك في كل شيء، في رقة احساسك وسعة مداركك وتسامح فكرك، يا لك من إنسان يا جدي، ليتنا نتعظ. لم يكن احترامك وتسامحك مشروطا أو محصورا في فئة او طبقة معينة، بل العكس، كنت تنبذ وبقوة مثل هذا السلوك وهذا النوع من التمييز، ليس بالقول فقط، وإنما بالسلوك الذي كنت تمارسه كل يوم، امام نفسك وفي محيطك الصغير والكبير على حد سواء، تنبذ التهكم والتمييز في حديثك بشتى أشكاله وتحرص على انتقاء كلماتك، لقد كنت ترفض الحديث في أعراض الناس، لقد كانت جملتك المعهودة «الله أعلم» عندما كنت تسأل عن أمور لا تعرفها حق المعرفة، كم كنت حي الضمير في كل ما تعمله، في حديثك وفي فعلك، ومع هذا كنت مرحا مزوحا تحب الفكاهة وتروي الحكايات الجميلة التي لطالما أمتعتنا بها وجلبت لنا الأنس، وجلبت لنا ابتسامتك الجميلة يا جدي. تعبت يا جدي وأتعبك الوهن وأفقدك البصر ثم السمع ثم القدرة على الحراك، زحف عليك ببطء موجع وآلمك ولكنني والله لم أسمعك قط تشتكي أو تتذمر ولو لبرهة، وهو ما كان يزيد من وجعي عليك عندما كنت أرى صحتك تتدهور، لم ينل الوهن من صبرك ولا من إيجابيتك شيئا، وفي خضم ذلك كله، كنت دائم الترديد لسؤالك المعتاد «ناقصكم شي؟» وعلى مائدة طعامك «ان شاء الله الأكل زين؟». الحديث عنك لا ينتهي يا جدي، كل حركة، كل إيماءة، كل جملة من جملك كانت تنم عن خلقك، ما أرق وأعذب كلماتك عندما كنت تطلب المساعدة حين فقدت بصرك من أي منا، صغيرا كان أو كبيرا، لم تضجر من حالك قط ولم تنهر، أيعقل هذا؟ أيعقل الا يزل لسانك ولو مرة وما أنت بملوم؟ لست ممن يستهويه التفاخر بالانتماء العائلي ولكني أفخر بك أنت، أفخر بخلقك، أفخر بمنظومة القيم التي عشت بها وعاشت بك، ومن حق الجميع ان يفخر بك وكيف لا وقد كنت على حد قول الكثير «أب الجميع». لا أرثيك يا جدي، لأن سيرتك لن تموت ما حيينا، نستذكر ونسترجع صفاتك لأن لنا بها الكثير والكثير من العبر، أعدك يا جدي، وسأربي أبنائي على خلقك، اعدك، هذا أجمل وأسمى ما يمكن أن أورثه لهم. أن نقتدي بك يا جدي هو المطلوب، ولكن أن نصل الى ما وصلت اليه من مكارم الأخلاق، ذلك هو الصعب، احترامك لنا صغيرا وكبيرا دون ان نسمع منك ولو مرة كلمة تجرحنا بها او تجرح بها إحساسك المرهف بالآخرين دوما وانتقاؤك للكلمات العطرة حتى ان اي احد منا لا يذكر انك مسسته بكلمة جارحة، وذلك ايضا صعب التحقيق. دامت لنا سيرتك نستنير بها علنا نستطيع ان نجسد ولو الشيء القليل من خصالك. مثلك في البشر قليل، ونادر ان تجتمع الخصال كما اجتمعت فيك، عمق ثقافة مع تواضع، إحساس مرهف، صبر جميل، كرم واسع، تسامح واحترام، وروح اجتماعية مرحة، خصال قلما اجتمعت في إنسان واحد، ولكنها اجتمعت فيك يا جدي الحبيب الأحب عبدالرزاق، رحمك الله ورحمنا من بعدك يا جدي. سنظل على ذكراك باقين وبنهجك مسترشدين.
No comments:
Post a Comment